في الإبداع الشعبي

 

للدكتور عباس الجراري

 

مطبعة المعارف الجديدة –الرباط –رجب 1408 هـ مارس 1988م.

 

المقدمـة

 

بسم الله الرحمان الرحيم

       

        تطرح حول الإبداع عدة تساؤلات يثير جوابها كثيرا من القضايا تمس مفهومه ومقاييسه ومظاهره الخارجية والداخلية، وتمس كذلك نوع العلاقة بينه وبين التعبير، ودرجة هذه العلاقة في تشكيل الأنماط التعبيرية المختلفة، بدءا من مجرد التقليد أو حتى المحاكاة إلى تجاوزهما وما إليهما لبلوغ ما يمكن وصفــه بالابتكار والخلق، أو لنقل إعادة الخلق فقط. ثم هي تمس بعد هذا صلة الإبداع بصاحبه، أي بالمبدع، مع كل العوامل الفاعلة التي تنصهر في ذاته وتؤثر في عمله.

 

        عن تلك التساؤلات أو بعضها تجيب مباحث هذا الكتاب، ولكن بطريق غير مباشر، إذ هو لا يتناولها بالدرس والتحليل، وإنما يتعرض لها أو بالأحرى يتوسل بها ويستأنس في سياق الموضوعات التي تناقشها هذه المباحث، ومن خلال الإشكالات والظواهر التي تطرحها.

 

        ويزيد في تحديد هذا السياق وتضييق نطاقه أن الجوانب الإبداعية التي يكشف النقاب عنها تدخل في مجال قلما وقع الالتفات إليه في التناول النقدي، وهو المتعلق بالتعبير الشعبي في شتى مناحيه ومختلف أدواته، مما يشمل مجموع التراث المنسوب إلى الشعب، وإن لم يعتمد الكتاب إلا على نماذج منه محددة.

 

        من هنا تأتي أولى صعوبات محاولة إدراك الحقيقة في العمل الإبداعي، سواء على مستوى الفهم والتحليل أو على مستوى التفسير والتأويل، وإن بأية منهجية كانت.والسبب أنه– لشعبيته– مرتبط بعوالم يتبين تعددها، ليس فقط بين منطقة خارجية تلقي مجموعة من العناصر تعتمل وتتفاعل، وأخرى داخلية تتلقى وتصهر وتنفعل، ولكن حتى داخل المنطقة الواحدة مما لا يمكن فهمه – فضلا عن الحسم فيه – إلا بتصور واضح لعدد من الضوابط لعل في طليعتها الجماعية الكامنة خلف المنشئ والمتلقي في نفس الآن، وكذا طبيعة أداة النقل، إن كانت الكتابة أو الرواية الشفوية، أو النغم والنبر، أو الرسم والتشكيل، أو الحركة والإيماء، أو العمل اليدوي الدقيق.

 

        وبدون هذا التصور، يظل الإبداع أي تظل حقيقته محاطة بكثير من الغموض، لا يزيل عنها القليل من سجفه إلا توحيد الرؤيا أو اقترابها قدر الإمكان. وهو مطمح لا سبيل إليه ما لم تضبط الشروط والقوانين المتحكمة في إنشاء الإبداع الشعبي وتلقيه؛ وقد يكون منها الثابت والمتحرك والمتحول، وقد يكون منها النابع من عبقرية الفرد أو ضمير الآخرين. كما قد يكون منها الملتصق بالمجتمع في إطاره البشري أو الكوني، وربما تجاوز ذلك إلى الخالق ومحاولة الارتباط  معه بأسباب تكاد تكون كالتصوف في حال التعلق والتأمل والشهود، إن لم تكن هي التصوف عينه، سلوكا وتعبيرا، مع ما يقتضيه من تجربة تبلورها معاناة تنطلق من اللاشعور قبل أن تتحكم فيها الرؤية الواعية فتصقلها التربية وتصفيها الخبرة.

 

        ومن بين كل ذلك، تنبعث قيمة الإبداع الشعبي من حيث هو فن ممتع ووثيقة شاهدة، وتنبعث كذلك جدواه التي قد تظهر حتى على صعيد عام كالتنمية. ومعهما تنبثق لا شك جماليته، مهما اختلف النظر إليها، انطلاقا من الوعي ومضمونه أو البنيات الذهنية والذوقية المكونة لهما، سواء أتعلق الأمر بمبدع فرد أو مبدعين متعددين تكون لهم مع العمل الإبداعي في شكله ومحتواه أكثر من رابطة، بحكم الوشائج التي تحافظ على التناسق والتناغم المنطلقين من النزعات الأصلية والكوامن الدفينة التي لا يغيبها الخيال أو يحجبها، وإن كان بعيدا وقوي الجموح.

 

        على أن هذه الجمالية قد تكون وقتية، أي قادرة على إحداث تجاوب ما من خلال ما هو متعارف عليـه وسائد في بيئة معينة وظرف محدود، إلا أنها قد تتجاوز هذه المرحلة انطلاقا من حوافز فنية إنسانية عميقة تتسم بإمكان التطور والتجدد والقدرة على التكيف والامتصاص، وتتميز بالشمول الذي ينبه ويستجيب في كل زمان ومكان.

 

        والفن هنا – كالمعرفة والأخلاق – لا يحقق ذاته وغايته إلا بهذا التجاوز؛ به يكون الإبداع الحق، وبه تكون الشعبية الحق كذلك.

 

        فلعل مباحث هذا الكتاب – المحدودة والمعدودة – أن تبرز جوانب من ملامح الإبداع الشعبي، وأن تنير السبيل لمزيد من البحث.

وبالله التوفيق

                                                                 الرباط فاتح ذي الحجة 1407

                                                                 الموافق 28 يوليوز 1987

 

                                                                 عباس الجراري